الجزء الثاني
وفي صباح يوم الجمعة الموافق 11/11/2011م اتصل بي الساعة العاشرة صباحاً فأخبروه أنّي نائمةً فهل نوقضها ؟ قال لهم : لا دعوها ترتاح وسأتصل بها مرةً أُخرى وما هي إلا بضع دقائق إلاّ وجاءتني اتصالات من عدة أشخاص يسألوني عن والدي ؟ فأخبرتهم أنه بخير والحمد لله ، فحاولتُ الاتصال بأخواتي ووالدي ولم أحصل منهم على رد لمكالماتي ،فكان الخوف والقلق يعصران قلبي فكررتُ الاتصال وكانت الساعات تمر ببطء وبعدها جاءني اتصال يخبرني بأن أشخاص توفوا في حارة الروضة ناتج القصف الشديد على الحارة فشعرتُ بالقلق على والدي ومن في البيت ثم اتصلتُ بهم فردوا عليّ فأخبروني أن قذيفة وقعت أمام البيت واستشهد عدة أشخاص فسألتُ عن والدي؟ فقالوا لي : إنه بخير والحمد لله فعرفوا حينها أني لم أعلم بموت زوجي ولم يصل إليّ الخبر ، فعمّ عليّ الحزن على وفاة أولئك ألأشخاص 0 ثم تكرر الاتصال لي مرة أخرى من أشخاص آخرين فقلقت كثيراً، ثم اتصلتْ بعدها إحدى أخواتي وطلبت مني أن أصلي وأحمد الله على ما هو منه لكل نفس أجل والموت لا يستطيع أحد أن يرده فقلت لها : لماذا هذا الكلام من الذي مات فأخبرتني أن عبد الله من ضمن الأشخاص الذين توفوا نتيجة وقوع القذيفة أمام البيت ،ولم أصدق الخبر وقلت لها :هل عبد الله مات أم لا ؟ فقالت لي : نعم هو من ضمنهم وأنتِ إنسانة مؤمنة وهذا ما كان يتمناهُ عبد الله أن يكون شهيداً وأن تكوني زوجة الشهيد التي كان يرددها دائماً ولا اعتراض على أمر الله 0 فصرخت من شدة الخوف والألم ولم أصدق الخبر الذي كان بالنسبة لي فاجعة مؤلمة فقلت لها : أن حياتي ودنيتي انتهت بعد عبد الله وأن سعادتي فارقتني بعد رحيله بكيت ألماً وحزناً وقهراً على فراق زوجي ثم بكى من في البيت وبدأ ولدي محمد بالصياح والبكاء وهو يردد بابا حبيبي ثم قال لي: ماما فين بابا فخفت عليه وضميته إلى صدري، وقلت له: بابا شهيد بالجنة ، ثم قمت وصليت ركعتين وحمدت الله تعالى على ذلك وأمرت كل من في البيت أن يسجد الله سجدت شكر وحمدت الله تعالى على أن ثبتني على مصيبتي وقلت في نفسي اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها فشعرت حينها أن الله أراد أن يحجب عني وفاة زوجي لحكمة لأنني لوكنت عرفت الخبر أول ما حدث قد أموت من شدة الفاجعة وهول الحادثة ،ثم تذكرت رؤيا رأيتها في المنام بعد آخر اتصال لي مع عبد الله خفت منها كثيراً ولم أفسرها ولكني عرفتُ تفسيرها بعد وفاة زوجي أني سأدخل في حزن شديد وطويل ،ولم أكن أعلم أن هذا الحزن هو فراقي لأقرب الناس إلى قلبي ونفسي عندها تمنيت لو أنني رديت على اتصاله الأخير الذي كان من خلاله يريد توديعي الوداع الأخير وندمت لأنني سافرتُ وتركته وحيداً في تعز وفي تلك الأوضاع ،لكنّي عرفت حينها أن كل نفس ذائقة الموت وهي حقيقة رغم مرارتها وقساوتها0
بعد ذلك قمنا وتوجهنا إلى تعز وأنا في الطريق كنت أردد أدعية وأحمد الله تعالى على هذا المصاب العظيم والمشرّف لي وللأسرة في نفس الوقت، ولكني أحسست أن روحي ستخرج من شدة حزني وألمي على فراقه وعلى ذكرياته وكلماته الأخيرة التي لا تفارقني، طال السفر وطالت ساعاته وأنا في الطريق تمنيت لو أراه بأي وسيلة ومتى سألتقي به وهل سيستقبلني كالعادة أم حرمت منه طوال حياتي؟ أسئلة أطرحها على نفسي 0 ونحن في الطريق كانت الاتصالات مستمرة ليخبرونا بأن القصف مكثف على مدينة تعز وخاصةً حي الروضة ، فطلبوا منّا ألاّ نذهب إلى المستشفى وما أن وصلنا إلى تعز ذهبنا إلى بيت من أُسرتنا بعيدة عن حارة الروضة ، انتظرنا إلى أن توقف القصف على حي الروضة ومستشفى الروضة حتى أتت الساعة الخامسة والنصف ثم ذهبت إلى زيارة زوجي وما أن وصلنا إلى عنده رأيته مطروح على الأرض جثه هامدة لا تتحرك تمنيت لو ينظر إليّ أو يخاطبني ولو دقيقة واحدة نظرت إليه النظرة الأخيرة وودعته الوداع الأخير الذي سأحرم منه طوال حياتي
نصفي الثاني الذي أعيش من أجله انتهى وانتقلت روحه إلى بارئها سلّمت عليه وجلست أدعو الله أن يجمعني معه في الفردوس الأعلى من الجنة وقلت : يا ربي إنّ عبد الله ضيف عندك اليوم فأكرمه ووسع مدخله وجازه بالإحسان إحسانا وبالسيئات عفواً وغفرانا هم السابقون ونحن اللاحقون إن شاء الله ثم تركته والحزن والقهر يحتويني وذكرياته لا تفارقني تركته وحيداً، تمنيت أن أجلس معه لأخاطبه وأشكو له عن وحدتي التي سأعيشها من دونه ، وعن الفراغ الذي يحتويني والذكريات التي لن أجد فيها سوى رماد وعن المكان الذي لن يعود إليه حديثه المعتاد ، فالحياة أصبحت عندي لا شي من دونه لأنه كان سر سعادتي وراحتي في دنيتي فلأجلك أصبر وأحتمل وأتقوى على وحدتي ووحشتي إلى أن ألقاك في الفردوس الأعلى 0 بعدها احتشد الناس واجتمع محبيه وقاموا بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ، ثم أُخذتْ الجنازة للدفن وقد مشى فيها الكثير من الناس من أهله وجيرانه ومحبيه بقدر ما كنت حزينة كل الحزن على فراقه بقدر ما كنت سعيدة أن ختم الله له بالخاتمة الحسنة وبلغه الشهادة التي كان دائماً يتمناها فقد صدق مع الله فصدق الله معه 0 وأكثر ما ارتحت له عندما سألت عن موته وذكروا لي أنه نطق بالشهادة ثم فاضت روحه إلى بارئها ، وكذلك الابتسامة الواضحة التي لم تفارق ثغره الباسم وصفاء وجهه الوضاء وما تلك إلاّ دعوة كان يدعوها عبد الله لنفسه بأن يتوفاه الله ويقبض روحه ويتغمده برحمةً واسعة 0 وما أشعرني بالراحة الكبيرة عندما ذكره الكثير بسيرته الطيبة ومواقفه الرائعة وسمعته الحسنة مما جعلني أفتخر به حياً وميتاً فقد جذب عبد الله قلوب الناس وأحبوه حياً وميتاً ، فكلما ذكروه ترحموا عليه ويدعون له ، ولا أنسى أن أُذكّر نفسي وأذكّركم جميعاً بقول جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم : (يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه )
على ذكراك باقيـــــــــة__
اليوم أنا أنتظر إطلالتك الحلوة عليّ وأنا في غرفتي لا أجرؤ أن أسأل عنك ولا إلى حيلة أصل بواسطتها بك لأطفئ السعير الذي يشتعل في قلبي لماذا أهديتني قلبك وروحك ثم رحلت ؟ لماذا سكنت روحي وملكت زمام قلبي وعالجت جروحي ثم رحلت ؟ لماذا يستحيل عليّ الاقتراب ممن أحبه قلبي ؟ لماذا يصعب عليّ أن أخاطبك أو أتحدث إليك ؟ كيف أستطيع الوصول إليك لأخبرك بما نفسي وقلبي وأحدثك عن مقدار معاناتي بعدك ؟ أشعر أنه يجب عليّ أن أهرب من الحياة بل من كل شيء ..أعيش في دوامة ..لا شيء له طعم بدونك ،الحياة فراغ ومرارة فأين تغيبُ ؟ إني أناديك من أعماق قلبي الدامي المحترق بلهيب فراقك فهل تسمعني؟ أرى نفسي شخصاً غريباً بدونك ويزيد حرماني بك وسأظل أسيرة حبك مقيمة على عهدك وفية لك مادام لي قلب ينبض ،وحبي لك ثابت على مدى الحياة وستبقى أنت الحب الذي أعيش من أجله إلى أن ألقاك ، وسأبقى حافظة لودك وسأحبك حياً وميتاً وسأحبك في دنيا الناس وآخرتهم ،فأنت نسمة وجودي وسلوتي في وحدتي وعزائي من آلامي وسراجي في الليالي المظلمة فلقد أصبحت حياتي وأحلامي فارغة بدونك لأن طيفك لا يفارقني ولا يغيب ،فأنت لي كل شيء بك تتحقق آمالي ورغباتي،بك كانت تتنفس أحزاني وكرباتي ، إن الدنيا تضيق بي كلما يطوف حولي خيالك فتذكرت ماضينا الجميل وأخذت أستعرض قصة حبنا وأقلّب صفحاته الملونة بألوان السعادة وصور الهناء صفحةً صفحة حتى إذا وصلت إلى هذه النهاية المؤلمة أخذتْ الأفكار السوداء تعبث بي والآلام الحادة تحزنني وغرقت في بحور اليأس والحيرة في غرفتي التي آوي إليها والدموع تنحدر من عيناي كالسيل تبلل وجهي وعنقي عسى أن تخفف من حرارة اللهيب الذي يعصف بي 0
فأين أنت يا عزيزي ؟
أين مثلث ماضينا الجميل الذي انطوت صفحاته بالنسيان ؟
أين تلك الذكريات التي اندثرت مع الزمن وصبغت بصبغة الزمن المعاصر؟
لقد انطفأت شرارة هذا الحب بعد هذه السنوات وبعد أن جمعتنا أيام كانت قد قدّر لنا فيها اللقاء في الدنيا وقد قدّر لنا فيها الفراق للأبد عن هذه الدنيا 0 أليس لهذا العذاب من آخر ؟
أليس لهذه الآلام من نهاية ؟
أليس لهذا الشقاء والتفكير والحرمان من حد ؟
هل سيرزقني الله باللقاء معك في الآخرة ؟
وهل سيمن عليّ ربي بقربك وحنانك ؟
كلما ذاقت علىّ الأمور وأتذكر ما مضى ، يغدوا العالم بأسرهِ وحشاً يفترسُ وحدتي ودموع الحزن لفراقك تنهمر فتُرهق جفوني ، فيصعب عليّ النوم وأتمنى أن يرجع لي رفيق دربي وصاحبي في الحياة 0 أتمنى أن ترجع تلك النفس البارّة المعطاءة ليعود إليّ هنائي ، فإن للمكان أنيناً من دونك ، وله وحشة بفقدانك وغيابك عني ، فلقد ملكت قلبي وتربعت فيه فالحياة بدونك تافهة والدنيا في رحيلك مظلمة فكم نفست عني من هم ثقيل غبت عني فلم أجد البديل فأنا التي أحببتك من كل جوارحي ، وكنتُ أخاف من هذا المجتمع أن يزرع الشوك ويرمي الصخور في طريق قلبين متحابين متصافيين تغمرهما السعادة ويُضفي عليهما السرور حتى وإن كان فراشنا الأرض ولحافنا السماء وغداؤنا الكسرة اليابسة أحببتك حب ملئ عليّ مشاعري واخترتك من دون الناس لتكون إلى جانبي وإن ابتعدت عني لأن طيفك يحيا في أعماق قلبي 0 لقد أحببتُ فيك هدوؤك وسكونك ، وأحببتُ فيك الجمال والكمال ، وأحببتُ فيك كل لطف وظرف لأني وجدت فيك تكامل العقل والمنطق والاتزان وتكامل في المعنى الأمثل للحب الناجح والذي أرى فيه القدوة الحسنة الذي قدّست فيه أنبل ما في الرجل من معاني 0 فها أنا أعيش اليوم على ذكراك وما زالت باقية ، فلقد ودعتْني روحك عندما آمنتُ أنني وجدتُ للروح أليفها وللقلب صورته وأدركتُ أننا يجب أن نبني للحياة بناءها الشامخ ونعمل لمستقبلنا ما يسعدنا ونضفي علينا ألواناً من البهجة والسرور 0 كل يوم تتجدد الذكريات وأسرح في ذكرياتي معك وأنا لا أدري كيف يختلطُ حلاوة الحب مع مرارة الحزن على الفراق ؟ فذكرياتك تعذبني تذكرني باليوم الذي كُنت فيه حبيبي وكل حياتي ، فلقد بكتْ الدنيا بعدك سيولا ، وعيناي تُمطرُ دماً يوم فارقتني وحزنتُ أن زواجنا لم يستمر ، وأن القدر قد أشفق على حبيبين ولكن هبتْ عاصفة وأخذتْك مني لتخطفك بعيداً عني وبقيتُ وحدي أُحاول إيقاف نزيف قلبي واسترحام دمعةً تغيضُ بها عيني بعد أن جفتْ دموعي يوم رحلت عني تيتم الحبُ من بعدك ، ونسيتُ كل مقاصد الغزل التي حفظتها ، فحياتي بعدك فراغ ، فلمن أكتبُ بعدك الآن ؟ ولمن أقول كلماتي ؟ فرسائلي لن تُقرأ من بعدك ، فالذكريات الحلوة تُعذبني ، وحقيقةً بُعدك عن أرض جنتي تؤلمني ، فالسعادة التي عشتها معك ملئت كل رسائلي واستنفدت كل كلماتي واليوم يتوقف القلم أمام جفاف القلب الذي خفق بحبك لتظهر رسائلي جافة مثل حياتي بعدك0 فقلمي عاجز أن يكتب جميع ما يكِنُهُ قلبي لك من محبة ومعزة ووفاء فلقد قدّمت روحك في سبيل إسعادي وهنائي ووضعت نفسك رهنٌ لأول إشارة مني فأثبت لي حبك الحقيقي ونبل عواطفك تجاهي وكنت أول مخلوقة هتف لها فؤادك0 فالوداع من حبيبة باقية على حبك في ليلك ونهارك في حياتك وبعد موتك0 الوداع من حبيبة باقية على ذكراك مخلصة وفية لك للأبد0
عقدٌ من الذكريات ___
(مواقف ومفاجآت )
ماذا أكتب عنه فمواقفه كثيرة تجبرني على أن أقف حائرة أمامها من أين أبدأ؟ وهل سأنتهي ؟
ــــ أذكر عنه صبره على مرضي واهتمامه بي وخوفه عليّ وعدم تضَجُّرُه من مرضي الذي أتعبني كثيراً ، لكن كنت أجد منه الحب والحنان والاهتمام ما يطبّب جراحي ويخفف معاناتي ، فكان بلسم شافي لمرضي رغم الأدوية التي استخدمتها إلا أن دوائي الذي لم أجده في أي صيدليه وجدته في زوجي الغالي ،وأكثر ما زاد تعلقي به أنه لم يظهر عليه التضجر يوماً أو الملل من كثرة المصاريف التي كانت تخرج في فترة مرضي فلقد كنت همه الوحيد وسعادتي وراحتي فاقت اهتمامه بنفسه آثرني على جميع رغباته وكان يقول لي :أن المحب يا عزيزتي لا يبعده عن حبيبته شيء ولا تمنعه قوة وسيغلب الحب على المرض لأن الحب أقول من أن ينال منه داء مهما استعصى ،سأسهر على راحتك واحقق لك كل ما تتمنيه وننطلق إلى الحياة إلى السعادة إلى بنا المستقبل بعون من الله 0 ـــ ولا أنسى موقفهُ النبيل معي عندما أتى من السعودية وأنا في المستشفى مريضة وهو في غاية الإرهاق والتعب إلاّ أن شوقهُ لي وخوفهُ علي طغى على إرهاقه وتعبه فبالهُ كان مشغولاً علىّ كثيراً ومشتاق لرؤيتي ، وكان يحاول أن يبحث عن أي شئ ليدخل السرور والراحة إلى نفسي وعندما وصل إلى المستشفى فرّ المرض من جسدي هارباً ، وحمدتُ الله في نفسي أن رزقني زوجاً طيب القلب حنون ، كريم الخُلق ، مما شجعني على أن أستعيد صحتي سريعاً بوجودهِ جانبي فكان بلسم يختلف عن أي بلسم ، بلسم ينطرح على الجرح يطيب ، ومما أضطريتُ أن أُضحي ولو بصحتي في سبيل أن أُقدّم لهُ كرم الضيافة ، وأهتم بوجوده ، وكنتُ أرى رضاه عني من ملامحهِ التي تحمل كل ود ورضا عني 0
ــــ ولا أنسى موقف آخر ولا أعتقد أن الرجال جميعهم يتحملون ذلك من زوجاتهم " هو موضوع حملي" الذي أتى بعد فترة طويلة من زواجي ، فلم يُظهِر التذمر أو حاول أن يجرحني بسبب تأخير حملي ، ولكن كان يقول المكتوب سوف نأخذه ولم نكن نعلم ما تُخفيه لنا الأقدار 0 فالحمد لله رُزِقتُ بأول مولود لي وقد مضى على فترة زواجنا " تسع سنوات " رأيتُ الفرحة والابتسامة في وجه عبد الله ولم يستطيع أن يُخفي هذهِ الفرحة ومضت ثمانية أشهر من حملي ثم تفاجئتُ بموت الجنين وحزنتُ كثيراً وحزن عبد الله بهذا الخبر ولكننا صبرنا واحتسبنا وطلبنا من الله التعويض ، حتى أتى ثاني حمل بعد سنتين وحمدتُ الله تعالى على ذلك رغم معاناتي وتعبي إلا أنني كنتُ أدعو الله تعالى أن يُصلح لي حملي ويتمُّهُ على خير وأن يرزقنا بطفل يكون قُرة عين لنا في الدنيا والآخرة ، وكان عبد الله يحلم بأن يرزقه الله الطفل الذي سيحمل اسمه ، ثم رزقنا الله بولدي محمد حفظه الله تعالى وسُعِد عبد الله بهذا الخبر ولم تَسعهُ الدنيا من الفرحة لمولودهِ المنتظَر الذي انتظرهُ بعد فترة طويلة ليصبح أباً ليرى في محمد أفضل تربية وأحسن تعليم وأن يبذل المستحيل في سبيل توفير له كل متطلبات الحياة ، وكان يطلب مني الاعتناء والاهتمام به لأنه سيكون سندي في حياتي وكنتُ أتعجب من كلامه هذا ، واليوم عرفتُ حقيقة وصدق تلك الكلمات وقيمة تلك النصائح التي قدمها لي فولدي محمد أصبح الآن سندي بعد والده ، وأنتظر اليوم الذي سيكبر ويصبح رجلاً أعتمد عليه وأرمي بحملي الثقيل على كتفه 0
ــــ وأذكر موقف آخر أنه في يوم قررنا السفر برفقة أخي وأمي إلى صنعاء لحضور عرس أحد أقاربنا في حين كان عبد الله في السعودية فطلبتُ منه السماح لي بالسفر معهم وقد كان حينها ينوي السفر إلينا ، ولكنه لم يكن محدد الميعاد ، فوافق لي بالسفر معهم ، فوصلنا إلى صنعاء وحضرنا العرس ، حتى أتى اليوم الثالث اتصل بي وأخبرني أنه مسافر وقد أستلم تأشيرة السفر للخروج ، فطلب مني بأن أُسافر اليوم الثاني بالصباح وسنلتقي في تعز ، فطلبتُ من أخي السفر ضروري ، وعندما عرف أن عبد الله مسافر إلينا ما كان من أخي إلا أن وبخني كثيراً ولامني وقال لي ما كان في داعي لسفرك معنا مادام أن زوجك سيأتي إلى اليمن وأنتي تعلمي بذلك0 ونحن في الطريق كان عبد الله على تواصل معنا من حين إلى آخر حتى وصل إلى البيت قبلي وقاموا أهلي باستقباله وقدموا له كرم الضيافة ،وأنا في الطريق كنت قلقة ولا يعلم بحالي إلا الله من جراء التوبيخ الذي سمعته من أخي وغيره وصلت إلى تعز في آخر الليل واستقبلني زوجي ورحب بي وكنتُ سعيدة باستقباله لي وكذلك أنه لم يلق بالاً لكلام الآخرين ولم يفتح سمعه لكلام الناس ولم يلومني واكتفى بقوله أنا أذنت لكِ ولا ألومك على ذلك أبداً،هذا الموقف أعجبني وزادت ثقتي ومحبتي واحترامي الشديد لزوجي المخلص0 أما عن مفاجآت عبد الله: في يوم وهو في المعسكر حصل على مبلغ مالي لابأس به مكافئة له فأحب عبد الله أن يفاجئني بشئ لم أتوقعه فقد أشترى لي ذهباً وأعطاني كهدية عند عودته من المعسكر تفاجئت كثيراً من ذلك الموقف وكان لهذا الموقف أثراً كبيراً في نفسي وشغل حيزاً في فؤادي فكان سبب زيادة تعلقي به أكثر وبقاء حبة في قلبي مما جعلني أفتخر به أمام الغير،وأحمد الله على أن وهبني زوجاً صاحب مبدأ عظيم مثل عبد الله
ــــ كان رحمه الله شديد الحب للمفاجئات والتي كانت تدخل السرور والسعادة على قلبي وخاصة أنه عند عودته من سفرياته من السعودية كان لابد أن يحضر لي كل مرة شيء ثمين يختلف عن المرة التي قبلها فمرة يفاجئني بِكُتب ثمينة ذات محتوى جميل ورائع استفدت منها في مجال حياتي ومرة يعطيني مصحفاً مميزاً يختلف عن الكثير من المصاحف المعروفة ومازِلت أحتفظ بها للذكرى إلى الآن وكلما قرأت منه ومن الكتب أدعوا الله تعالى له بكل خير0 ــــ وكان رحمه الله كذلك عاشقاً للتجديد والتغيير فمرة أتفاجأ بأنه قد جهز لنا عزومة عشاء في إحدى المطاعم الراقية أو إحدى الحدائق نجدد فيه روتين الحياة ونضيف فيها أنواعاً من التغير والخروج عن النمط المعتاد مما يزيد الحياة متعة وسعادة وبهجة 0 والآن سيتوقف قلمي عن سرد مواقف ومفاجئات عبد الله لأنني إذا أستمريت في الكتابة أحتاج لعدد لا نهائي من الأوراق وكمية لا تنتهي من الحبر فمهما كتبت لن أستطيع أن أوفي بِحقه في كتابتي عن مواقفه الرائعة التي سورت حياتي بسور الحب والاحترام والتقديروالاهتمام0 فاسأل الله أن يجزيه عني كل الجزاء وأن يجمعني به في دار البقاء في جنة عرضها الأرض والسماء0
أما مواقفـــــــــــــــــــــــــهُ مع الآخرين__
- أذكر موقفهُ مع أهله أولاً 0 كان كثير التواصل مع إخوانه وأخواته للسؤال عنهم وتتبع أخبارهم ومعايشتهم ومساعدتهم وقت الحاجة ومشاركتهم في الأفراح والأحزان ، فلا يكاد يحدث موقف يحتاجون فيه إلى عون إلاّ كان الأول في تقديم المساعدة لهم 0 كان سخي وكريم مع الجميع ويتبادل معهم أواصر الحب والأُخوة والاحترام فهو يوقر الكبير ويعطف على الصغير ويتلمّس آلامهم ليُطببها بقدر إمكانه ، كان يُسعد لسعادة إخوانه وأخواته وبقية أُسرته ، ويحزن لأحزانهم ، فصلة الرحم في نظره من أهم الأعمال التي كان يُحافظ عليها في حياته ، التزاماً منه بقوله ( ص): من أحب أن يُوسَّع له في رزقه ،وينسأ له في أثره فليصل رحمه 000 صدق رسول الله
- أما موقفه مع ابن عمه أمين 0 يقول : كانت علاقتي قوية بالمرحوم ، تربُطنا منذ الصغر ، وأنا فعلاً معجب بتلك الشخصية الخلوقة والصابرة والطيبة وأعتبر عبد الله مثالاً قوياً يُقتدى به سواءً بأخلاقه أو تعامله أو صموده وصبره وكفاحه وإخلاصه ووفائه في جميع مجالات الحياة رَحمهُ الله رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جنّاته0
- أما موقفه مع ابن أخيه خالد 0 يقول : كنت أعمل في محل عمي كمساعد وكنت أرى من عمي طيبة قلبه وخُلقه الحسن وكنت أتضجرُ أحياناً من طيبته الزائدة وسماحته 0 وأذكرُ موقف حدث أن شخصاً أتى وأخذ بضاعة من المحل بمبلغ 60000 ألف أو أكثر ولكنه لم يقضها ولم يظهر له أي أثر مما جعلني أغضب وقلت لعمي : انظر إلى نهاية طيبتك وثقتك الزائدة بالناس ، فرد علي عمي بكل برودة : إن كان مُعَسّرالله يسامحه وإن كان لديه ومُيسّر فسيُعيد الله حقي بأكثر من ذلك فاستغربت لسماحة قلب عمي وسعة صدره وصبره على معاملة الآخرين مما جعلني أفتخر به وأنه بمثابة المعلم الرائع الذي ينهل منه دروس نافعة في حياتي العلمية والعملية وزاد تعلُّقي واحترامي لعمي كثيراً ومحبتي له لدرجة أنني أفضل البقاء معه دائماً وأبداً 0
- وأذكر موقفه مع ابنة أخيه 0 تقول : لا أستطيع وصف حبي وتقديري وعظيم امتناني لعمي الراحل فلقد كان خير عم وخاصةً عندما طلب منه والدي أن يتكفل بموضوع زواجي وتجهيزي رغم أن عمي لم يتولى المهمة من قبل إلاّ أنه تقبّل الأمر وعمل جاهداً على أن أكون أسعد عروس وحاول كذلك أن يغرس الفرحة في نفسي وأن يُشعرني بأن والدي موجود بجانبي لقد أحسستُ فعلاً بطيبة قلبه وسعة صدره واهتمامه الكبير بي ، وشعرتُ حينها بأن عمي إنسان عظيم ويستحق مني كل حب وتقدير فأمثاله في الرجال قليل وكم كنتُ أتمنى أن يحضر عرسي إلاّ أن الأقدار أبت إلاّ أن تخطفه من بيننا وتسمو بروحه الطاهرة إلى رب السماء تاركاً الجميع في حزن عميق وجرح كبير لا يوصف فرحمةُ الله عليه تحفهُ في قبره إلى يوم القيامة 0 - أما موقفهُ مع أهلي وخاصةً البنات 0 كان عبد الله بمثابة الأخ الشقيق لنا من طيبة قلبه ومساعدته وتلمُّسه لاحتياجاتنا ومتطلباتنا وتقديم العون متى احتجنا إلى ذلك ، كُنُّا نعتمد عليه في كثير من الأمور وهذا مما افتقدناه بعد رحيله .
ــ ومن مواقفه الرائعة الخاصة مع أختنا إيمان وهي في بلاد الغربة ولأول مرة في السعودية حزنتْ لفراق الأهل والوطن ، وشعرتْ بألم البعد ولكن المرحوم لم يُقصّر معها كان لها الأخ والصديق وكان على تواصل تام معها لأنه كان في السعودية ويسأل عنها لدرجة أنه كان يتصل بها ويشبكها بالاتصال مع أهلها ليُشعرها أنها بيننا ومعنا .
ــ وتذكر أختي خلود موقف: أنها عندما كانت مريضة في بداية رمضان أشد المرض ولم تجد أحداً ليُسعفها إلى المستشفى فصَبَرتْ وتألمتْ كثيراً وما كان من عبد الله أن فاجئها وأحضر سيارة ثم أسعفها إلى المستشفى لأنه حزِنَ عليها 0 فهذا أكثر المواقف تأثيراً في نفسها لأنه كان يتألم من ألم الجميع ، وأكثرُ خدمةً للجميع ، فأتمنى من الله أن يجزيه الجزاء الأوفى ومثل عبد الله في هذه الأيام قليل0 - أما بالنسبة لوالدي ووالدتي أن المواقف من عبد الله كثيرة فماذا يذكرون عن ولدٌ بار بوالديه طوال حياته ؟ ولم نرى منه إلا كل خير ويقولون إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا عبد الله لمحزونون 0
- أما بالنسبة لأخي عبد اللطيف يُعتبرعبد الله شقيقي الذي لم تلده أمي فلقد أحسست بطيبته وأُخوّته وصدق تعامله معي ، فكنت أعتمد عليه في كثير من الأمور كان سندي في قضاء حوائجي مما زاد حبي واحترامي وتقديري له وبأسلوب عبد الله زال جميع الحواجز التي كانت بيننا فأشعرني بأننا روحان في جسد واحد ولا أستطيع وصف حُزني وألمي لفراقي لأخي الصغير والقريب إلى نفسي 0 وأتمنى من الله أن يحفّه بالرحمة والمغفرة وأن يجمعني به في الفردوس الأعلى من الجنة
- أما رأي الجيران والأصدقاء فيه : يُعتبر عبد الله من أفضل رجال الحارة في أخلاقة وتعامله وطيبة قلبه وسماحة نفسه وكرمه وتلبيته لمساعدة الآخرين تميز بكثير من الصفات العالية والحميدة التي أكسبته محبة من حوله وحزنهم الشديد على رحيله ونختصرها في عبارة ( مثلك الرجال ياعبد الله في هذا الزمان قليل ) - أما موقفه مع صديقه فيصل يقول : كانت تربطني به علاقة منذُ زمن بعيد عمل عبد الله معنا في مطعم والدي وله موقف أثر بي عندما تشاجرت مع والدي وكان حاضراً فيها ثم أخذني ونصحني وقال لي : إن طاعة الوالدين من طاعة الله وهي أساس النجاح في كل الأمور ومن حينها عندما كنت أراه أبتسم في وجهه إجلالاً واحتراماً وتقديراً لذلك الرجل البسيط الطيب الكريم رحمه الله واسكنه فسيح جناته
- أما رأي خالي منصور فيه بالرغم من أنه التحق بالسلك العسكري وحياة العسكرية كلها تتسم بالقسوة والجفاء والجلادة والعنف إلاّ أن عبد الله غير ذلك تماماً كان لطيفاً حنوناً مرناً متزناً ألفاظه مهذبة وذا أخلاق تتعامل معه فترى شخصاً متربياً مصبوغاً بالصبغة الإسلامية ليس مثل غيره من بعض العسكر ألفاظهم بذيئة وجارحه وعنيفة كنت عندما أجلس معه أفرّغ ما في خاطري وذاكرتي له ويفرّغ ما بخاطره وجعبته لي وأسعد بمناقشته كثيراً لا تفاجئه الأحداث والمشاكل ولا تؤثر فيه الزوابغ ولا الأراجيف المصاحبة لأحداث الثورة وكأنه خضع لتربية عميقة بطيئة مستمرة ، لا يعبأ بالدنيا ولا ينشغل بها وكأنه من أهل الآخرة يمشي على الأرض رهيناً حصيفاً بالتعامل مع المشاكل لا يتصرف بتهور ولا بانفعال وإذا استشرته أشار عليك برأي عاقل خال من المزاجية والأثرة والأنانية والهفوة والخطأ ،يسأل عن أحوال الأمة وعن المصالح العامة وعن الثورة والشباب بالساحات ، فهناك أناس يعيشون من أجل الناس ليس من أجل أنفسهم عبد الله منهم رحمه الله الآن إذا نزلت تعز لا أرتاح فيها لأني أشعر أني فقدت الأنيس والجليس الصالح والمحاور الرائع والأخ المتواضع العفوي غير المتكلف ،وعندما بلغني نبأ استشهاده الجميع يقولون رحمك الله ياعبد الله إلا أنا قلت : الله يرحمنا من بعدك ياعبد الله حقاً لأننا في هذه الحياة الكادحة الصعبة الفالح من خرج منها كخروج عبد الله عريساً شهيداً مقبلاً غير مدبر هو الذي خارج نفسه في هذه الحياة ولم يغتر بها يوماً ما ولم يركن إليها ولا إلى نزواتها ورغباتها وكأنه من أهل السماء ليس من أهل الأرض رحمك الله ياعبد الله ورحمنا من بعدك وجمعنا بك في الفردوس الأعلى من الجنة ولا يحرمنا من شفاعتك 000 آميـــن وحاولت أن أنضّم أبيات شعرية لذلك البطل الراحل وأعتقد أني لست أوفي بحقه وأقول : تعز تُعزى ولكن من يعزيها رحل الذي حبّب الإقامة فيها ذاك بن هزاع الذي فارقنا ومضى شهيداً ثائراً ووجيها صلبُ العزيمةِ صابراً ومجاهداً لأبي محمداً لن يكون شبيها قولوا لزوجته التي فارقها صبراً على فقدانها لصفيها فأبو محمدُ يا بزية فائزُ بجنان ربي فاسمعيها وعيها فأبو محمد فارس الحرب الذي لم يخشَ يوماً قصفها ودويها من جودهِ في الخير جاد بروحه لتحقق اليمن السعيدة رقيها قيمٌ تمثلها سلوكاً واقعاً ومضى يخلّدها لمعتنقيها وغداً سيصبح للخليلةُ شافعاً ولأهله وحبيبها وذويها وغداً ستجتمع الخصوم بربها بمحاكم لا تنفع الحصانةُ فيها
الخـــــــــــــاتمـــــــــة
أخيراً أسطر هذه الكلمات لتكون هي المحطة الأخيرة في هذه القصة ،وأتمنى من الله أن أكون قد وفيت ولو الشيء البسيط تجاه زوجي رحمه الله وما كتبته عنه يمثل قطرة من بحر ومن الصعب أن أكتب كل شيء عنه فهو يستحق أكثر من ذلك وأتمنى من كل شخص يقرأ قصتي أن يدعو له بالرحمة والمغفرة وأن يجمعني به في الفردوس الأعلى من الجنة ، وأطلب من كل شخص في قلبه شيء من عبد الله مسامحته عن أي تصرف بدر منه ، أو من كان يسأله شيء لا علم لنا به أرجو إخباري بذلك 00 اللهم بلغت اللهم فاشهد وأن يعلم الشخص أن هذه الدنيا ما هي إلاّ دار مؤقتة كلنا راحلون عنها ولكن يجب علينا أن نحسن تعاملنا مع الآخرين وخاصة الأهل والأقارب لنسطر في ذكراها سيرة طيبه عنا بعد رحيلنا ، فأرجو المعذرة والعفو عن التقصير وإن وفقت فمن الله وإن قصرت فمن نفسي والشيطان " وصلى الله وسلم على محمد "